قال الله عز وجل في سورة البقرة آية رقم 102:
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
فما التفسير لهذه الايات
روى شيخ المفسِّرِين ابن جرير - بإسْناده – إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) . قال : لم يُنْـزِل الله السِّحْر .
وروى أيضا عن الربيع بن أنس (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال : ما أنْزَل الله عليهما السِّحْر .
ثم قال ابن جرير : فَتَأويل الآيَة عَلى هَذا الْمَعْنَى الذي ذَكَرْنَاه عن ابن عباس والرَّبِيع مِن تَوجِيهِهما مَعْنَى قَوله : (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) إلى : " ولم يُنْـزِل على الْمَلَكَين " واتَّبَعُوا الذي تَتُلُوا الشَّياطِين عَلى مُلْك سُلَيمَان مِن السِّحْر ، وما كَفَر سُلَيمَان ولا أَنْزَل الله السِّحْر على الْمَلَكَين ، ولكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُون النَّاس السِّحْر بِبَابِل هَارُوت ومَارُوت ، فَيَكُون حِينئذ قوله : (بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) مِن الْمُؤخَّر الذي مَعْنَاه التَّقْدِيم . اهـ .
وقال القرطبي :
قوله تعالى : (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) " مَا " نَفِي ، والوَاو للعَطْف على قَولِه : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) ، وذلك أنَّ اليَهُود قَالُوا : إنَّ الله أنْزَل جِبْرِيل ومِيكَائيل بالسِّحْر ؛ فَنَفَى الله ذلك ، وفي الكَلام تَقْدِيم وتَأخِير ، التَّقْدِير : ومَا كَفَر سُلَيمَان ومَا أُنْزِل على الْمَلَكَين ، ولكِنَّ الشَّياطِين كَفَرُوا يُعَلِّمون النَّاس السِّحْر بِبَابِل هَارُوت ومَارُوت ؛ فَهَارُوت ومَارُوت بَدَل مِن الشَّياطِين في قَوله : (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) . هذا أوْلَى ما حُمِلَتْ عليه الآية مِن التَّأويل ، وأصَحّ ما قِيل فِيها ، ولا يُلْتفَت إلى سِواه ؛ فالسِّحْر مِن اسْتِخْرَاج الشَّياطِين لِلَطَافَة جَوْهَرِهم ودِقّـة أفْهَامِهم . اهـ .
ورجّح القاسمي كون " ما " نافية ، وأنَّ هَارُوت ومَارُوت كَانا رَجُلَين مُتَظَاهِرَين بالصَّلاح . فقال : اعْلَم أنَّ للعُلَمَاء في هذه الآية وُجُوهًا كَثيرة ، وأقْوالاً عَديدة ؛ فمنهم مَن ذَهَب فيها مَذْهب الأخْبَارِيين نَقَلة الغّثّ والسَّمِين ، ومِنهم مَن وَقَفَ مَع ظَاهِرِها البَحْت وتَمَحَّل لِمَا اعْتَرَضَه بِمَا الْمَعْنَى الصَّحِيح في غِنى عَنه ، ومِنهم مَن ادَّعَى فِيها التَّقْدِيم والتَّأخِير ، ورَدّ آخِرَها على أوّلها ، بِمَا جَعَلها أشبَه بالألْغَاز والْمُعَمَّيَات ، التي يَتَنَزَّه عنها بَيان أبْلَغ كَلامِهم ، إلى غير ذلك مما يَرَاه الْمُتَتَبِّع لِمَا كُتِب فيها .
والذي ذَهَب إليه الْمُحَقِّقُون أنَّ هَارُوت ومَارُوت كَانا رَجُلَين مُتَظَاهِرَين بالصَّلاح والتَّقْوى في بَابِل ... وكانا يُعلِّمَان النَّاس السِّحْر . وَبَلَغ حُسْن اعْتِقَاد النَّاس بِهِما أنْ ظَنُّوا أنَهما مَلَكَان مِن السَّمَاء ، وما يُعلِّمَانِه للنَّاس هو بِوحْي مِن الله ، وبَلَغ مَكْر هَذَين الرَّجُلَين ومُحَافَظتهما على اعْتِقَاد النَّاس الْحَسَن فِيهما أنهما صَارَا يَقُولان لِكُلّ مَن أرَاد أن يَتَعَلَّم مِنهما : (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) ، أي : إنما نَحْن أوُلو فِتْنَة نَبْلُوك ونَخْتَبِرُك ، أتَشْكُر أمْ تَكْفُر ، ونَنْصَح لَك ألاَّ تَكْفُر . يقولان ذلك لِيُوهِما النَّاس أنَّ عُلومَهما إلَهِيَّة ، وصِنَاعَتهما رَوْحَانِيَّة ، وأنهما لا يَقْصِدَان إلاَّ الْخَير ...
فـ " ما " هنا نافية على أصَحَّ الأقْوال ، ولفظ (الْمَلَكَيْنِ) هنا وارِد حَسب العُرْف الْجَارِي بَيْن النَّاس في ذلك الوَقْت .
ثم خَلَص القاسمي إلى : " أنَّ مَعْنى الآية مِن أوَّلها إلى آخِرها هكذا :
أن اليَهود كَذَّبُوا القُرآن ونَبَذُوه وَرَاء ظُهورِهم ، واعْتَاضُوا عَنه بالأقَاصِيص والْخُرَافَات التي يَسْمَعُونَها مِن خُبَثَائهم عن سُلَيمَان ومُلْكِه ، وزَعُمُوا أنه كَفَر ، وهَو لَمْ يَكْفُر ، ولكن شَياطِينهم هُم الذين كَفَرُوا ، وصَارُوا يُعلِّمُون النَّاس السِّحْر ، ويَدّعُون أنه أُنْزِل على هَارُوت ومَارُوت ، اللذين سَمَّوهما مَلَكَين ، ولم يَنْزِل عَليهما شَيء ... فأنْتَ تَرَى أنَّ هَذا المقَام كُله ذََمّ ، فلا يَصِحّ أن يَرِد فيه مَدْح هَارُوت ومَارُوت .
والذي يَدُلّ على صِحَّة مَا قُلْنَاه فِيهما أنَّ القُرآن أنكَر نُزُول أيّ مَلَك إلى الأرْض لِيُعَلِّم النَّاس شَيئا مِن عِند الله ، غَير الوَحْي إلى الأنْبِيَاء ، ونَصَّ نَصًّا صَرِيحًا أنّ الله لَم يُرْسِل إلاَّ الإنْس لِتَعْلِيم بَنِي نَوْعِهم ، فقال : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[الأنبياء:7] ، وقال مُنكِراً طَلَب إنْزَال الْمَلَك : (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)[الأنعام:8] ، وقال في سورة الفرقان : (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) إلى قَولِه : (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)[الآيات:7-9] . اهـ .
وقد رُويت أخبار في قصة الْمَلَكين ، وهي أخبار لا تَصِحّ .
قال ابن عطية بعد سياق الروايات : وهذا كُلّه ضَعيف .
وقال القرطبي : لا يَصِحّ منه شيء ، فإنه قَول تَدْفَعه الأصُول في الملائكة الذين هُم أمَناء الله على وَحْيِه ، وسُفَرَاؤه إلى رُسُله .
وقال ابن كثير : وقد رُويَ في قِصة هارُوت ومَاروت عن جماعة من التابعين ... وحَاصِلها رَاجِع في تَفْصِيلها إلى أخْبَار بني إسْرائيل ، إذْ ليس فيها حَديث مَرفوع صَحيح مُتَّصِل الإسْناد إلى الصَّادِق المصدوق المعصوم الذي لا يَنطق عن الهوى ، وظاهِر سياق القرآن إجمال القِصَّة مِن غير بَسْط ولا إطْناب ، فنحن نُؤمن بما وَرَد في القُرآن على ما أرَادَه الله تعالى ، والله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال .
وقال القاسمي : وللقُصّاص في " هَارُوت ومَارُوت " أحَاديث عَجيبة ! ثم ذَكَرَ أنَّ هذا في " التلمود " ثم قال : وجَارَاه جَهَلَة القُصَّاص مِن المسلمين ، فأخَذُوها منه . ثم نَقَلَ عن الرازي وجوه بُطلان تلك القصة .
والله تعالى أعلم .
منقولـ من شيخنا الفاضلـ /عبد الرحمن السحيمـ حفظه الله
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
فما التفسير لهذه الايات
روى شيخ المفسِّرِين ابن جرير - بإسْناده – إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) . قال : لم يُنْـزِل الله السِّحْر .
وروى أيضا عن الربيع بن أنس (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال : ما أنْزَل الله عليهما السِّحْر .
ثم قال ابن جرير : فَتَأويل الآيَة عَلى هَذا الْمَعْنَى الذي ذَكَرْنَاه عن ابن عباس والرَّبِيع مِن تَوجِيهِهما مَعْنَى قَوله : (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) إلى : " ولم يُنْـزِل على الْمَلَكَين " واتَّبَعُوا الذي تَتُلُوا الشَّياطِين عَلى مُلْك سُلَيمَان مِن السِّحْر ، وما كَفَر سُلَيمَان ولا أَنْزَل الله السِّحْر على الْمَلَكَين ، ولكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُون النَّاس السِّحْر بِبَابِل هَارُوت ومَارُوت ، فَيَكُون حِينئذ قوله : (بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) مِن الْمُؤخَّر الذي مَعْنَاه التَّقْدِيم . اهـ .
وقال القرطبي :
قوله تعالى : (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) " مَا " نَفِي ، والوَاو للعَطْف على قَولِه : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) ، وذلك أنَّ اليَهُود قَالُوا : إنَّ الله أنْزَل جِبْرِيل ومِيكَائيل بالسِّحْر ؛ فَنَفَى الله ذلك ، وفي الكَلام تَقْدِيم وتَأخِير ، التَّقْدِير : ومَا كَفَر سُلَيمَان ومَا أُنْزِل على الْمَلَكَين ، ولكِنَّ الشَّياطِين كَفَرُوا يُعَلِّمون النَّاس السِّحْر بِبَابِل هَارُوت ومَارُوت ؛ فَهَارُوت ومَارُوت بَدَل مِن الشَّياطِين في قَوله : (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) . هذا أوْلَى ما حُمِلَتْ عليه الآية مِن التَّأويل ، وأصَحّ ما قِيل فِيها ، ولا يُلْتفَت إلى سِواه ؛ فالسِّحْر مِن اسْتِخْرَاج الشَّياطِين لِلَطَافَة جَوْهَرِهم ودِقّـة أفْهَامِهم . اهـ .
ورجّح القاسمي كون " ما " نافية ، وأنَّ هَارُوت ومَارُوت كَانا رَجُلَين مُتَظَاهِرَين بالصَّلاح . فقال : اعْلَم أنَّ للعُلَمَاء في هذه الآية وُجُوهًا كَثيرة ، وأقْوالاً عَديدة ؛ فمنهم مَن ذَهَب فيها مَذْهب الأخْبَارِيين نَقَلة الغّثّ والسَّمِين ، ومِنهم مَن وَقَفَ مَع ظَاهِرِها البَحْت وتَمَحَّل لِمَا اعْتَرَضَه بِمَا الْمَعْنَى الصَّحِيح في غِنى عَنه ، ومِنهم مَن ادَّعَى فِيها التَّقْدِيم والتَّأخِير ، ورَدّ آخِرَها على أوّلها ، بِمَا جَعَلها أشبَه بالألْغَاز والْمُعَمَّيَات ، التي يَتَنَزَّه عنها بَيان أبْلَغ كَلامِهم ، إلى غير ذلك مما يَرَاه الْمُتَتَبِّع لِمَا كُتِب فيها .
والذي ذَهَب إليه الْمُحَقِّقُون أنَّ هَارُوت ومَارُوت كَانا رَجُلَين مُتَظَاهِرَين بالصَّلاح والتَّقْوى في بَابِل ... وكانا يُعلِّمَان النَّاس السِّحْر . وَبَلَغ حُسْن اعْتِقَاد النَّاس بِهِما أنْ ظَنُّوا أنَهما مَلَكَان مِن السَّمَاء ، وما يُعلِّمَانِه للنَّاس هو بِوحْي مِن الله ، وبَلَغ مَكْر هَذَين الرَّجُلَين ومُحَافَظتهما على اعْتِقَاد النَّاس الْحَسَن فِيهما أنهما صَارَا يَقُولان لِكُلّ مَن أرَاد أن يَتَعَلَّم مِنهما : (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) ، أي : إنما نَحْن أوُلو فِتْنَة نَبْلُوك ونَخْتَبِرُك ، أتَشْكُر أمْ تَكْفُر ، ونَنْصَح لَك ألاَّ تَكْفُر . يقولان ذلك لِيُوهِما النَّاس أنَّ عُلومَهما إلَهِيَّة ، وصِنَاعَتهما رَوْحَانِيَّة ، وأنهما لا يَقْصِدَان إلاَّ الْخَير ...
فـ " ما " هنا نافية على أصَحَّ الأقْوال ، ولفظ (الْمَلَكَيْنِ) هنا وارِد حَسب العُرْف الْجَارِي بَيْن النَّاس في ذلك الوَقْت .
ثم خَلَص القاسمي إلى : " أنَّ مَعْنى الآية مِن أوَّلها إلى آخِرها هكذا :
أن اليَهود كَذَّبُوا القُرآن ونَبَذُوه وَرَاء ظُهورِهم ، واعْتَاضُوا عَنه بالأقَاصِيص والْخُرَافَات التي يَسْمَعُونَها مِن خُبَثَائهم عن سُلَيمَان ومُلْكِه ، وزَعُمُوا أنه كَفَر ، وهَو لَمْ يَكْفُر ، ولكن شَياطِينهم هُم الذين كَفَرُوا ، وصَارُوا يُعلِّمُون النَّاس السِّحْر ، ويَدّعُون أنه أُنْزِل على هَارُوت ومَارُوت ، اللذين سَمَّوهما مَلَكَين ، ولم يَنْزِل عَليهما شَيء ... فأنْتَ تَرَى أنَّ هَذا المقَام كُله ذََمّ ، فلا يَصِحّ أن يَرِد فيه مَدْح هَارُوت ومَارُوت .
والذي يَدُلّ على صِحَّة مَا قُلْنَاه فِيهما أنَّ القُرآن أنكَر نُزُول أيّ مَلَك إلى الأرْض لِيُعَلِّم النَّاس شَيئا مِن عِند الله ، غَير الوَحْي إلى الأنْبِيَاء ، ونَصَّ نَصًّا صَرِيحًا أنّ الله لَم يُرْسِل إلاَّ الإنْس لِتَعْلِيم بَنِي نَوْعِهم ، فقال : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[الأنبياء:7] ، وقال مُنكِراً طَلَب إنْزَال الْمَلَك : (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)[الأنعام:8] ، وقال في سورة الفرقان : (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) إلى قَولِه : (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)[الآيات:7-9] . اهـ .
وقد رُويت أخبار في قصة الْمَلَكين ، وهي أخبار لا تَصِحّ .
قال ابن عطية بعد سياق الروايات : وهذا كُلّه ضَعيف .
وقال القرطبي : لا يَصِحّ منه شيء ، فإنه قَول تَدْفَعه الأصُول في الملائكة الذين هُم أمَناء الله على وَحْيِه ، وسُفَرَاؤه إلى رُسُله .
وقال ابن كثير : وقد رُويَ في قِصة هارُوت ومَاروت عن جماعة من التابعين ... وحَاصِلها رَاجِع في تَفْصِيلها إلى أخْبَار بني إسْرائيل ، إذْ ليس فيها حَديث مَرفوع صَحيح مُتَّصِل الإسْناد إلى الصَّادِق المصدوق المعصوم الذي لا يَنطق عن الهوى ، وظاهِر سياق القرآن إجمال القِصَّة مِن غير بَسْط ولا إطْناب ، فنحن نُؤمن بما وَرَد في القُرآن على ما أرَادَه الله تعالى ، والله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال .
وقال القاسمي : وللقُصّاص في " هَارُوت ومَارُوت " أحَاديث عَجيبة ! ثم ذَكَرَ أنَّ هذا في " التلمود " ثم قال : وجَارَاه جَهَلَة القُصَّاص مِن المسلمين ، فأخَذُوها منه . ثم نَقَلَ عن الرازي وجوه بُطلان تلك القصة .
والله تعالى أعلم .
منقولـ من شيخنا الفاضلـ /عبد الرحمن السحيمـ حفظه الله
من مواضيع باكي العين في المنتدى: